فصل: تفسير الآية رقم (137):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (130):

{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)}
قوله تعالى: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ}أي يوم نحشرهم نقول: لهم ألم يأتكم رسل فحذف، فيعترفون بما فيه افتضاحهم. ومعنى {مِنْكُمْ} في الخلق والتكليف والمخاطبة.
ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال: {مِنْكُمْ} وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث.
وقال ابن عباس: رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي، كما قال: {وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}.
وقال مقاتل والضحاك: أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس.
وقال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن، ثم قرأ {إلى قومهم منذرين}. وهو معنى قول ابن عباس، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في الأحقاف.
وقال الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعثون إلى الإنس والجن جميعا. قلت: وهذا لا يصح، بل في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود» الحديث. على ما يأتي بيانه في الأحقاف.
وقال ابن عباس: كانت الرسل تبعث إلى الإنس وإن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى الجن والإنس، ذكره أبو الليث السمر قندي.
وقيل: كان قوم من الجن: استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم وأخبروهم، كالحال مع نبينا عليه السلام. فيقال لهم رسل الله، وإن لم ينص على إرسالهم.
وفي التنزيل: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} أي من أحدهما، وإنما يخرج من الملح دون العذب، فكذلك الرسل من الإنس دون الجن، فمعنى {مِنْكُمْ} أي من أحدكم. وكان هذا جائزا، لأن ذكرهما سبق.
وقيل: إنما صير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرصة القيامة، والحساب عليهم دون الخلق، فلما صاروا في تلك العرصة في حساب واحد في شأن الثواب والعقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة، لأن بدء خلقهم للعبودية، والثواب والعقاب على العبودية، ولأن الجن أصلهم من مارج من نار، واصلنا من تراب، وخلقهم غير خلقنا، فمنهم مؤمن وكافر.
وعدونا إبليس عدو لهم، يعادي مؤمنهم ويوالي كافرهم. وفيهم أهواء: شيعة وقدرية ومرجئة يتلون كتابنا. وقد وصف الله عنهم في سورة الجن من قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ}. {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً} على ما يأتي بيانه هناك. {يقُصُّونَ} في موضع رفع نعت لرسل. {قالوا شهدنا على أنفسنا} أي شهدنا أنهم بلغوا. {وغرتهم الحياة الدنيا} قيل: هذا خطاب من الله للمؤمنين، أي أن هؤلاء قد غرتهم الحياة الدنيا، أي خدعتهم وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا. {وشهدوا على أنفسهم} أي اعترفوا بكفرهم. قال مقاتل: هذا حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك وبما كانوا يعملون.

.تفسير الآية رقم (131):

{ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131)}
قوله تعالى: {ذلِكَ} في موضع رفع عند سيبويه، أي الأمر ذلك. و{إِنَّ} مخففة من الثقيلة، أي إنما فعلنا هذا بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم، أي بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير.
وقيل: لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم، فهو مثل {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}. ولو أهلكهم قبل بعثة الرسل فله أن يفعل ما يريد. وقد قال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} وقد تقدم. وأجاز الفراء أن يكون {ذلِكَ} في موضع نصب، المعنى: فعل ذلك بهم، لأنه لم يكن يهلك القرى بظلم.

.تفسير الآية رقم (132):

{وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي من الجن والإنس، كما قال في أية أخرى: {أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ} ثم قال: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
وفي هذا ما يدل على أن المطيع من الجن في الجنة، والعاصي منهم في النار، كالإنس سواء. وهو أصح ما قيل في ذلك فاعلمه. ومعنى {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ} أي ولكل عامل بطاعة درجات في الثواب ولكل عامل بمعصية دركات في العقاب. {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ} أي ليس بلاه ولا ساه. والغفلة أن يذهب الشيء عنك لاشتغالك بغيره. {عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأه ابن عامر بالتاء، الباقون بالياء.

.تفسير الآية رقم (133):

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)}
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} أي عن خلقه وعن أعمالهم. {ذُو الرَّحْمَةِ} أي بأوليائه وأهل طاعته {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالإماتة والاستئصال بالعذاب. {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ} أي خلقا آخر أمثل منكم وأطوع. {كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} والكاف في موضع نصب، أي يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافا مئل ما أنشأكم، ونظيره {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ}. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}. فالمعنى يبدل غيركم مكانكم، كما تقول: أعطيتك من دينارك ثوبا.

.تفسير الآية رقم (134):

{إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}
قوله تعالى: {إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ} يحتمل أن يكون من {أوعدت} في الشر، والمصدر الإيعاد. والمراد عذاب الآخرة. ويحتمل أن يكون من {وعدت} على أن يكون المراد الساعة التي في مجيئها الخير والشر فغلب الخير. روي معناه عن الحسن. {وما أنتم بمعجزين} أي فائتين، يقال: أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني.

.تفسير الآية رقم (135):

{قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}
قوله تعالى: {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} وقرأ أبو بكر بالجمع {مكاناتكم}. والمكانة الطريقة. والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه فأنا أثبت على ما أنا عليه. فإن قيل: كيف يجوز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه وهم كفار. فالجواب أن هذا تهديد، كما قال عز وجل: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}. ودل عليه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الإسلام، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة، أي الجنة. قال الزجاج: {مَكانَتِكُمْ} تمكنكم في الدنيا. ابن عباس والحسن والنخعي: على ناحيتكم. القتبي: على موضعكم. {إِنِّي عامِلٌ} على مكانتي، فحذف لدلالة الحال عليه. {ومن} من قوله: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ} في موضع نصب بمعنى الذي، لوقوع العلم عليه. ويجوز تكون في موضع رفع، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله فيكون الفعل معلفا. أي تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار، كقول: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى} وقرأ حمزة والكسائي {من يكون} بالياء.

.تفسير الآية رقم (136):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأنعام نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)}
قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأنعام نَصِيباً} فيه مسألة واحدة ويقال: ذرأ يذرأ ذرءا، أي خلق.
وفي الكلام حذف واختصار، وهو وجعلوا لأصنامهم نصيبا، دل عليه ما بعده. وكان هذا مما زينه الشيطان وسؤله لهم، حتى صرفوا من ماله طائفة إلى الله بزعمهم وطائفة إلى أصنامهم، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. والمعنى متقارب. جعلوا لله جزءا ولشركائهم جزءا، فإذا ذهب ما لشركائهم بالإنفاق عليها وعلى سدنتها عوضوا منه ما لله، وإذا ذهب ما لله بالإنفاق على الضيفان والمساكين لم يعوضوا منه شيئا، وقالوا:
الله مستغن عنه وشركاؤنا فقراء. وكان هذا من جهالاتهم وبزعمهم. والزعم الكذب. قال شريح القاضي: إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا. وكانوا يكذبون في هذه الأشياء لأنه لم ينزل بذلك شرع.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: من أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ}. قال ابن العربي: وهذا الذي قاله كلام صحيح، فإنها تصرفت بعقولها العاجزة في تنويع الحلال والحرام سفاهة بغير معرفة ولا عدل، والذي تصرفت بالجهل فيه من اتخاذ الآلهة أعظم جهلا وأكبر جرما، فإن الاعتداء على الله تعالى أعظم من الاعتداء على المخلوقات. والدليل في أن الله واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في مخلوقاته أبين وأوضح من الدليل على أن هذا حلال وهذا حرام. وقد روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص: إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم عبدتم الحجر! فقال عمرو: تلك عقول كادها باريها. فهذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلها أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثه الرسول عليه السلام. فكان من الظاهر لنا أن نميته حتى لا يظهر، وننساه حتى لا يذكر، إلا أن ربنا تبارك وتعالى ذكره بنصه وأورده بشرحه، كما ذكر كفر الكافرين به. وكانت الحكمة في ذلك- والله أعلم- أن قضاءه قد سبق، وحكمه قد نفذ بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة. وقرأ يحيى بن وثاب والسلمى والأعمش والكسائي {بزعمهم} بضمه الزاي. والباقون بفتحها، وهما لغتان. {فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} أي إلى المساكين. {ساءَ ما يَحْكُمُونَ} أي ساء الحكم حكمهم. قال ابن زيد: كانوا إذا ذبحوا ما لله ذكروا عليه اسم الأوثان، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى {فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ}. فكان تركهم لذكر الله مذموما منهم وكان داخلا في ترك أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.

.تفسير الآية رقم (137):

{وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)}
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ} المعنى: فكما زين لهؤلاء أن جعلوا لله نصيبا ولأصنامهم نصيبا كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. قال مجاهد وغيره: زينت لهم قتل البنات مخافة العيلة. قال الفراء والزجاج: شركاؤهم ها هنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان.
وقيل: هم الغواة من الناس.
وقيل: هم الشياطين. وأشار بهذا إلى الوأد الخفي وهو دفن البنت حية مخافة السباء والحاجة، وعدم ما حر من من النصرة. وسمي الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم.
وقيل: كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرن أحدهم، كما فعله عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبد الله. ثم قيل: في الآية أربع قراءات، أصحها قراءة الجمهور: {وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ} وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة. {شُرَكاؤُهُمْ} رفع ب {زُيِّنَ}، لأنهم زينوا ولم يقتلوا. {قَتْلَ} نصب ب {زُيِّنَ} و{أَوْلادُهُمْ} مضاف إلى المفعول، والأصل في المصدر أن يضاف إلى الفاعل، لأنه أحدثه ولأنه لا يستعني عنه ويستغني عن المفعول، فهو هنا مضاف إلى المفعول لفظا مضاف إلى الفاعل معنى، لأن التقدير زين لكثير من المشركين قتلهم أولادهم شركاؤهم، ثم حذف المضاف وهو الفاعل كما حذف من قوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ} أي من دعائه الخير. فالهاء فاعلة الدعاء، أي لا يسأم الإنسان من أن يدعو بالخير. وكذا قوله: {زين لكثير من المشركين} في أن يقتلوا أولادهم شركاؤهم. قال مكي: وهذه القراءة هي الاختيار، لصحة الإعراب فيها ولأن عليها الجماعة. القراءة الثانية {زُيِّنَ} بضم الزاي. {لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ} بالرفع. {أَوْلادُهُمْ} بالخفض. {شُرَكاؤُهُمْ} بالرفع قراءة الحسن. ابن عامر وأهل الشام {زين} بضم الزاي {لكثير من المشركين قتل أولادهم} برفع {قتل} ونصب {أولادهم}. {شركائهم} بالخفض فيما حكى أبو عبيد، وحكى غيره عن أهل الشام أنهم قرءوا {وكذلك زين} بضم الزاي {لكثير من المشركين قتل}
بالرفع {أولادهم} بالخفض {شركائهم} بالخفض أيضا. فالقراءة الثانية قراءة الحسن جائزة، يكون {قَتْلَ} اسم ما لم يسم فاعله، {شُرَكاؤُهُمْ}، رفع بإضمار فعل يدل عليه {زُيِّنَ}، أي زينه شركاؤهم. ويجوز على هذا ضرب زيد عمرو، بمعنى ضربه عمرو، وأنشد سيبويه:
لبيك يزيد ضارع لخصومة أي يبكيه ضارع. وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية أبي بكر {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ} التقدير يسبحه رجال. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة {قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ} بمعنى قتلهم النار. قال النحاس: وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عامر وأهل الشام فلا يجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف لأنه لا يفصل، فأما بالأسماء غير الظروف فلحن. قال مكي: وهذه القراءة فيها ضعف للتفريق بين المضاف والمضاف إليه، لأنه إنما يجوز مثل هذا التفريق في الشعر مع الظروف لاتساعهم فيها وهو في المفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القراءة أبعد.
وقال المهدوي: قراءة ابن عامر هذه على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه، ومثله قول الشاعر:
فزججتها بمزجه ** زج القلوص أبي مزادة

يريد: زج أبي مزادة القلوص. وأنشد:
تمر على ما تستمر وقد شفت ** غلائل عبد القيس منها صدورها

يريد شقت عبد القيس غلائل صدورها.
وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي: قراءة ابن عامر لا تجوز في العربية، وهي زلة عالم، وإذا زل العالم لم يجز اتباعه، ورد قوله إلى الإجماع، وكذلك يجب أن يرد من زل منهم أو سها إلى الإجماع، فهو أولى من الإصرار على غير الصواب. وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، لأنه لا يفصل. كما قال:
كما خط الكتاب بكف يوما ** يهودي يقارب أو يزيل

وقال آخر:
كأن أصوات من إيغالهن بنا ** أواخر الميس أصوات الفراريج

وقال آخر:
لما رأت ساتيدما استعبرت ** لله در اليوم من لامها

وقال القشيري: وقال قوم هذا قبيح، وهذا محال، لأنه إذا ثبتت القراءة بالتواتر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو الفصيح لا القبيح. وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان {شركائهم} بالياء وهذا يدل على قراءة ابن عامر. وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء، لأن الشركاء هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه، فالفعل مضاف إلى فاعله على ما يجب في الأصل، لكنه فرق بين المضاف والمضاف إليه، وقدم المفعول وتركه منصوبا على حاله، إذ كان متأخرا في المعنى، وأخر المضاف وتركه مخفوضا على حاله، إذ كان متقدما بعد القتل. والتقدير: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. أي أن قتل شركاؤهم أولادهم. قال النحاس: فأما ما حكاه غير أبي عبيد وهي القراءة الرابعة فهو جائز. على أن تبدل شركاءهم من أولادهم، لأنهم شركاؤهم في النسب والميراث. {ليردوهم} اللام لام كي. والإرداء الإهلاك. {وليلبسوا عليهم دينهم} الذي ارتضى لهم. أي يأمرونهم بالباطل ويشككونهم في دينهم. وكانوا على دين إسماعيل، وما كان فيه قتل الولد، فيصير الحق مغطى عليه، فبهذا يلبسون. {ولو شاء الله ما فعلوه} بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله. وهو رد على القدرية {فذرهم وما يفترون} يريد قولهم إن لله شركاء.